تتشكل هوية الشعوب عبر طقوسها الاجتماعية وموائدها الاحتفالية، فبينما تتجه بعض المجتمعات نحو تعزيز قيم التكافل من خلال توزيع اللحوم على الفقراء، تركز مجتمعات أخرى على فنون طهي أطباق اللحوم الرئيسية بدقة متناهية للاحتفال بالمناسبات. في الجزائر، وتحديداً في منطقة القبائل بشمال شرق البلاد، يقاوم تقليد “الوزيعة” أو “ثيمشرط” بالأمازيغية، عوامل الزمن والاندثار، ليظل شاهداً حياً على قيم التعاضد الاجتماعي التي تسبق شهر رمضان المبارك ومناسبة عاشوراء، حيث يمثل هذا العرف الاجتماعي المتجذر حالة فريدة من التضامن تتجاوز مجرد كونها عملية توزيع للطعام.
إرث الأجداد وآليات التضامن الريفي
تتجلى فلسفة “الوزيعة” في اشتراك سكان القرى بشراء مجموعة من العجول أو الثيران لنحرها، عادة في يوم الجمعة بعد الصلاة، ليتم تقاسم اللحوم بين الجميع بالتساوي والقسط، في مشهد يعيد إحياء التقاليد التي دأب عليها المجتمع الجزائري عبر العصور. وفي هذا السياق، تنشط جمعيات محلية مثل جمعية “ثافسوت” بقرية تاوريرت لترتيب هذه المناسبة، حيث يوضح رئيس الجمعية عبد القادر غانم أنهم يحرصون بالتعاون مع الجمعية الدينية للمسجد على إحياء هذه العادة الموروثة عن الأجداد، مشيراً إلى أن العملية تبدأ بجمع الأموال والانتقال إلى محافظات مجاورة مثل سطيف لجلب العجول.
لا تتوقف الترتيبات عند الشراء، بل تمتد لتشمل تنظيم اجتماعات في “ثاجماعت”، وهو مجلس الإدارة التقليدي في القرى الأمازيغية، لضبط قوائم السكان وتحديد الحصص. واللافت في هذا التقليد هو البعد الإنساني العميق، حيث يتم إدراج أسماء الفقراء الذين لم يساهموا مالياً ضمن القائمة بسرية تامة، ليحصلوا على حصصهم كغيرهم دون حرج، في تجسيد حي لمفهوم الستر والتكافل. ويؤكد الباحث في التاريخ بجامعة الجزائر، محمد أرزقي فراد، أن هذه العادة سبقت ظهور الدول بمفهومها السياسي، وكانت مرتبطة قديماً بالتقويمات الفلاحية ومواسم الحصاد قبل أن تكتسي طابعاً دينياً واجتماعياً يعزز تماسك “الخلية الأساسية” للمجتمع وهي القرية.
تحديات الاستمرارية والالتزام الصحي
حتى في ظل الأزمات الصحية العالمية، أثبتت هذه العادة مرونتها، فخلال فترات انتشار وباء كورونا، لم يتوقف السكان عن إحيائها، بل قاموا بتكييفها مع البروتوكولات الصحية. ويشير القائمون على المبادرة إلى خفض أعداد المشاركين بشكل ملحوظ وتقليص عدد العجول المستعملة، مع الحفاظ على جوهر العادة المتمثل في تقسيم اللحوم وتركها ليوم السبت لتوزيعها بالتساوي، وفي حال تبقي حصص إضافية، يتم توجيهها للقرى المجاورة تعزيزاً لروابط الجوار.
من التوزيع الجماعي إلى دقة الطهي الغربي
على الضفة الأخرى من الثقافة العالمية، وبخلاف التركيز الجزائري على “توزيع” اللحم النيء كقيمة اجتماعية، تبرز في الثقافات الغربية تقاليد تركز على “تحضير” اللحم المخصص للمناسبات بطرق طهي معقدة ونكهات غنية، كما يظهر في وصفات طهي “لحم الفخذ اللولبي” (Spiral-Sliced Ham) الذي يُعد طبقاً احتفالياً بامتياز. تعتمد هذه الوصفة المستوحاة من المطابخ الأمريكية العريقة على مزيج متناغم من النكهات يجمع بين نبيذ بورت الياقوتي، واليانسون النجمي العطري، والعسل، ومربى الكرز، مما يضفي توازناً مثالياً يكسر حدة ملوحة اللحم ويمنع الصلصة من أن تكون حلوة بشكل مفرط.
تقنيات التحضير والتزجيج
تتطلب عملية إعداد هذا الطبق دقة عالية في التعامل مع درجات الحرارة والوقت، حيث تبدأ العملية بإزالة الأغلفة البلاستيكية ووضع اللحم في كيس خاص بالفرن لضمان طهي متجانس، أو تغطيته بإحكام برقائق الألمنيوم. يُترك اللحم في درجة حرارة الغرفة لمدة ساعة ونصف قبل إدخاله فرناً محمى مسبقاً على درجة حرارة منخفضة (250 درجة فهرنهايت)، ويستمر الطهي حتى تصل الحرارة الداخلية إلى حوالي 100 درجة، وهو ما قد يستغرق حوالي ثلاث ساعات ونصف، في عملية طهي بطيئة تضمن طراوة اللحم.
وبالتزامن مع وجود اللحم في الفرن، يتم تحضير صلصة التزجيج عبر غلي النبيذ مع اليانسون النجمي حتى يتركز السائل، ثم يُضاف العسل والمربى والتوابل للحصول على قوام شراب كثيف. المرحلة الحاسمة تكون عند إخراج اللحم وشق الكيس لدهنه بهذا المزيج الغني، ثم إعادته للفرن وتكرار العملية لضمان تشكل طبقة خارجية لامعة وغنية بالنكهة، حتى تصل درجة الحرارة الداخلية إلى 115 درجة.
في النهاية، وسواء كانت المناسبة تتطلب توزيع اللحوم كما في قرى الجزائر لتعزيز اللحمة الاجتماعية، أو تتطلب تحضيرها بمهارة عالية كما في المطابخ العالمية للاستمتاع بمذاق فريد، يظل الطعام واللحم تحديداً محوراً رئيسياً في احتفالات الشعوب، حيث يحمل كل طبق وكل تقليد قصة تمتد جذورها إما في عمق التاريخ الاجتماعي أو في سجلات فنون الطهي المتطورة.